فصل: الحديث الأول

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مختصر ابن كثير **


 رقم الآية ‏(‏214‏)‏

‏{‏ أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ‏}

يقول تعالى‏:‏ ‏{‏أم حسبتم أن تدخلو الجنة‏}‏ قبل أن تبتلوا وتختبروا وتمتحنوا، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء‏}‏ وهي الأمراض والأسقام والآلام، والمصائب والنوائب‏.‏ قال ابن مسعدود‏:‏ ‏{‏البأساء‏}‏ الفقر، ‏{‏الضراء‏}‏ السقم، ‏{‏وزلزلوا‏}‏ خوفوا من الأعداء زلزالاً شديداً وامتحنوا امتحاناً عظيماً، كما جاء في الحديث عن خباب بن الأرت قال‏:‏ قلنا يا رسول اللّه ألا تستنصر لنا، ألا تدعوا اللّه لنا فقال‏:‏ ‏(‏إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار‏؟‏‏؟‏ على مفرق راسه فيخلص إلى قدميه، لا يصرفه ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، لا يصرفه ذلك عن دينه‏)‏، ثم قال‏:‏ ‏(‏واللّه ليتمن اللّه هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا اللّه والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون‏)‏ ‏"‏رواه البخاري‏"‏

وقال تعالى‏:‏ ‏{‏ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين‏}‏ وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي اللّه تعالى عنهم في يوم الأحزاب، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا* هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديدا‏}‏ ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه قال‏:‏ نعم، قال‏:‏ فكيف كانت الحرب بينكم‏؟‏ قال‏:‏ سجالاً يدال علينا وندال عليه، قال‏:‏ كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏مثل الذين خلوا من قبلكم‏}‏ أي سنتهم كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏فأهلكنا أشد منهم بطشا ومضى مثل الأولين‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وزلزلوا حتى يقول الرسل والذين آمنوا معه متى نصر الله‏}‏ أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏ألا إن نصر اللّه قريب‏}‏، كما قال ‏{‏فإن مع العسر يسراً إن مع العسر يسرا‏}‏ وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ألا إن نصر الله قريب‏}‏‏.‏

 رقم الآية ‏(‏215‏)‏

‏{‏ يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم ‏}

قال مقاتل‏:‏ هذه الآية في نفقة التطوع، ومعنى الآية‏:‏ يسألونك كيف ينفقون‏؟‏ قاله ابن عباس ومجاهد، فبيّن لهم تعالى ذلك، فقال‏:‏ ‏{‏قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل‏}‏ أي اصرفوها في هذه الوجوه، كما جاء في الحديث‏:‏ ‏(‏أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك‏)‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وما تفعلوا من خير فإن اللّه به عليم‏}‏ أي مهما صدر منكم من فعل معروف، فإن اللّه يعلمه وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء، فإنه لا يظلم أحداً مثقال ذرة‏.‏

 رقم الآية ‏(‏216‏)‏

‏{‏ كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ‏}‏

هذا إيجاب من اللّه تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام، وقال الزهري‏:‏ الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين، وإذا استغيث أن يغيث، وإذا استنفر أن ينفر، وإن لم يحتج إليه قعد‏.‏ قلت ولهذا ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية‏)‏‏.‏ وقال عليه السلام يوم الفتح‏:‏ ‏(‏لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وهو كره لكم‏}‏ أي شديد عليكم ومشقة، وهو كذلك فإنه إما أن يقتل أو يجرح، مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم‏}‏ أي لان القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء والاستيلاء على بلادهم وأموالهم وذراريهم وأولادهم ‏{‏وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم‏}‏ وهذا عام في الأمور كلها‏.‏ قد يحب المرء شيئاً وليس له فيه خيرة ولا مصلحة، ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدوا على البلاد والحكم، ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏والله يعلم وأنتم لا تعلمون‏}‏ أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأُخراكم، فاستجيبوا له وانقادوا لأمره لعلكم ترشدون‏.‏

 رقم الآية ‏(‏217 ‏:‏218‏)‏

‏{‏ يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ‏.‏ إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم ‏}‏

عن جندب بن عبد اللّه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بعث رهطاً وبعث عليهم أبا عبيدة بن الجراح فلما ذهب ينطلق بكى صبابةً إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فحبسه، فبعث عليهم مكانه عبد اللّه بن جحش وكتب له كتاباً وامره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا، وقال‏:‏ ‏(‏لا تكرهن أحداً على السير معك من أصحابك‏)‏ فلما قرأ الكتاب استرجع وقال‏:‏ سمعاً وطاعة للّه لرسوله، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب فرجع رجلان وبقي بقيتهم، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى، فقال المشركون للمسلمين‏:‏ قتلتم في الشهر الحرام‏!‏ فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير‏}‏ الآية‏.‏ أي لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم باللّه وصددتم عن محمد صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه، وأخراج أهل المسجد الحرام منه حين أخرجوا محمداً صلى اللّه عليه وسلم وأصحابه أكبر من القتل عند اللّه‏.‏

وقال العوفي عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتال فيه كبير‏}‏ وذلك أن المشركين صدوا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وردوه عن المسجد في شهر حرام، قال‏:‏ ففتح اللّه على نبيّه في شهر حرام من العام المقبل، فعاب المشركون على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم القتال في شهر حرام، فقال اللّه تعالى ‏{‏وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهل منه أكبر عند الله‏}‏ من القتال فيه، وأن محمداً صلى اللّه عليه وسلم بعث سرية، فلقوا عمروا بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب، وأن أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه، وأن المشركين أرسلوا يعيِّرونه بذلك، فقال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه‏}‏ إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحابُ محمد صلى اللّه عليه وسلم، والشرك أشد منه

وقال ابن هشام في كتاب السيرة ‏:‏ وبعث رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عبد اللّه بن جحش في رجب مقفلة من بدر الأولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي كما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً، فلما سار عبد اللّه بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه‏:‏ إذا نظرت في كتابي في هذا فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم‏.‏ فلما نظر عبد الله بن جحش الكتاب قال‏:‏ سمعاً وطاعة، ثم قال لأصحابه‏:‏ أمرني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد، فسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له نجران أضلَّ سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان بعيراً لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عليه في طلبه، ومضى عبد اللّه بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة فمرت به عير لقريش تحمل زيتاً وأدماً وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم فأشرف لهم عكاشة ابن محصن وكان قد حلق رأسه، فلما رأوه آمنوا وقالوا‏:‏ عُمَّار لا بأس عليكم منهم، وتشارو القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من رجب، فقال القوم‏:‏ واللّه لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم، ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم، فرمى واقد بن عبد اللّه التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، واستأسَر عثمان بن عبد الله و الحكم بن كيسان وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم، وأقبل عبد اللّه بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المدينة‏.‏ فقال ابن إسحاق‏:‏ وقد ذكر بعض آل عبد اللّه بن جحش أن عبد اللّه قال لأصحابه‏:‏ إن لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم مما غنمنا الخُمس، وذلك قبل أن يفرض اللّه الخُمس من المغانم فعزل لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم خُمس العير وقسم سائرها بين اصحابه‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما قدموا على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام‏)‏ فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً‏.‏ فلما قال ذلك رسول الله صلى اللّه عليه وسلم أسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا، وقالت قريش‏:‏ قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل اللّه على رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل اللّه وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل‏}‏ أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجكم منه وأنتم أهله ‏{‏أكبر عند الله‏}‏ من قتل من قتلتم منهم ‏{‏والفتنة أكبر من القتل‏}‏ أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند اللّه من القتل‏:‏ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا‏}‏ أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين‏.‏

قال ابن إسحاق‏:‏ فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج اللّه عن المسلمين ما كانوا فيه من الشدة قبض رسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وسلم العير والأسيرين وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد اللّه والحكم بن كيسان فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا نفديكموها حتى يقدم صاحبانا‏)‏ يعني سعد بن أبي وقاص و عتبة بن غزوان‏"‏فإنا نخشاكم عليهما، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم، فقدم سعد وعتبة ففداهما رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منهم، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيداً، وأما عثمان بن عبد اللّه فلحق بمكة فمات بها كافراً، قال ابن إسحاق‏:‏ فلما تجلى عن عبد اللّه بن جحش وأصحابه ما كان حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا‏:‏ يا رسول اللّه أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين‏؟‏ فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل اللّه أولئك يرجون رحمة اللّه واللّه غفور رحيم‏}‏ فوضع اللّه من ذلك على أعظم الرجاء‏.‏ قال ابن إسحاق‏:‏ فقال أبو بكر الصديق رضي اللّه عنه في غزوة عبد اللّه بن جحش، ويقال‏:‏ بعل عبد اللّه بن جحش قالها حين قالت قريش قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام‏:‏

تعدون قتلاً في الحرام عظيمة * وأعظم منه لو يرى الرشد راشد

صدودكم عمّا يقول محمد * وكفر به واللّه راء وشاهد

وإخراجكم من مسجد اللّه أهله * لئلا يرى للّه في البيت ساجد قال ابن هشام‏:‏ هي لعبد اللّه بن جحش

 رقم الآية ‏(‏219 ‏:‏ 220‏)‏

‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون ‏.‏ في الدنيا والآخرة ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم ‏}‏

روى الإمام أحمد عن أبي ميسرة عن عمر أنه قال‏:‏ لما نزل تحريم الخمر قال‏:‏ اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير‏}‏ فدعي عمر فقرئت عليه، فقال‏:‏ اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً، فنزلت الآية التي في النساء‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى‏}‏ فكان منادي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا قام الصلاة نادى‏:‏ أن لا يقربن الصلاة سكران، فدعي عمر فقرئت عليه، فقال‏:‏ اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً‏.‏ فنزلت الآية التي في المائدة، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ ‏{‏فهل أنتم منتهون‏؟‏‏}‏ قال عمر‏:‏ انتهينا انتهينا ‏"‏أخرجه الإمام أحمد عن أبي ميسرة‏"‏أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه‏:‏ إنه كل ما خامر العقل، والميسر‏:‏ وهو القمار‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس‏}‏، أما إثمهما فهو في الدين، وأما المنافع فدنيوية، من حيث إن فيها نفع البدن، وتهضيم الطعام، وإخراج الفضلات، تشحيذ بعض الأذهان، ولذة الشدة المطربة، التي فيها كما قال حسّان بن ثابت في جاهليته‏:‏

ونشربها فتتركنا ملوكاً * وأُسْداً لا يُنَهْنهنا اللقاء

وكذا بيعها والانتفاع بثمنها، وما يربحه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين، ولهذا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإثمهما أكبر من نفعهما‏}‏، ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات، ولم تكن مصرحة بل معرضة، ولهذا قال عمر رضي اللّه عنه لما قرئت عليه‏:‏ اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون‏}‏، وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء اللّه تعالى وبه الثقة‏.‏ قال ابن عمر والشعبي ومجاهد‏:‏ إن هذه أول آية نزلت في الخمر ‏{‏يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير‏}‏ ثم نزلت الآية التي في سورة النساء، ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو‏}‏ روي أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالا‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ إن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون‏}‏، وعن ابن عباس‏:‏ ‏{‏ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو‏}‏ قال‏:‏ ما يفضل عن أهلك، ‏{‏قل العفو‏}‏ يعني الفضل، وعن طاووس‏:‏ اليسير من كل شيء، وعن الربيع‏:‏ أفضل مالك وأطيبه، والكل يرجع إلى الفضل، ويدل على ذلك ما رواه ابن جرير عن أبي هريرة قال، قال رجل‏:‏ يا رسول اللّه عندي دينار، قال‏:‏ ‏(‏أنفقه على نفسك‏)‏،قال‏:‏ عندي آخر، قال‏:‏ ‏(‏أنفقه على أهلك‏)‏، قال‏:‏ عندي آخر، قال‏:‏ ‏(‏أنفقه على ولدك‏)‏ قال‏:‏ عندي آخر، قال‏:‏ ‏(‏فأنت أبصر‏)‏ ‏"‏رواه ابن جرير وأخرجه مسلم بنحوه‏"‏وعن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لرجل‏:‏ ‏(‏أبدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا‏)‏ ‏"‏رواه مسلم أيضا‏"‏

وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى، واليد العليا خير من اليد السفلى، وأبدأ بمن تعول‏)‏ ‏"‏أخرجه مسلم عن أبي هريرة‏"‏، وفي الحديث أيضاً‏:‏ ‏(‏ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف‏(‏، ثم قيل‏:‏ إنها منسوخة بآية الزكاة، وقيل‏:‏ مبينة بآية الزكاة وهو أوجه‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة‏}‏ أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها أوضحها، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه، ووعده ووعيده لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، قال ابن عباس‏:‏ يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هي واللّه لمن تفكر فيها، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم واللّه يعلم المفسد من المصلح ولو شاء الله لأعنتكم‏}‏ الآية قال ابن عباس‏:‏ لما نزلت ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏}‏، و‏{‏إن الذين ياكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً‏}‏ انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ويسالونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏ فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم وبشرابهم ‏"‏رواه أبو داود النسائي والحاكم‏"‏وقالت عائشة رضي اللّه عنها‏:‏ إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي فقوله‏:‏ ‏{‏قل إصلاح لهم خير‏}‏ أي على حدة، ‏{‏وإن تخالطوهم فإخوانكم‏}‏ إي وأن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم لأنهم أخوانكم في الدين ولهذا قال‏:‏ ‏{‏واللّه يعلم المفسد من المصلح‏}‏ أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح، وقوله‏:‏ ‏{‏ولو شاء اللّه لأعنتكم إن اللّه عزيز حكيم‏}‏ أي ولو شاء اللّه لضيّق عليكم وأحرجكم، ولكنه وسّع عليكم وخفف عنكم وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن‏}‏ بل جوّز الأكل منه للفقير بالمعروف، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر، أو مجاناً كما سيأتي بيانه في سورة النساء إن شاء اللّه وبه الثقة‏.‏

 رقم الآية ‏(‏221‏)‏

‏{‏ ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم أولئك يدعون إلى النار والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون ‏}‏

هذا تحريم من اللّه عزّ وجلّ على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان، ثم إن كان عمومها مراداً وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله‏:‏ ‏{‏والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب‏}‏ عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ استثنى اللّه من ذلك نساء أهل الكتاب، وقيل‏:‏ بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية، والمعنى قريب من الأول، واللّه أعلم‏.‏ وإنما كره عمر نكاح الكتابيات لئلا يزهد الناس في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، كما روي عن شقيق، قال‏:‏ تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر‏:‏ خلِّ سبيلها، فكتب إليه‏:‏ أتزعم أنها حرام فأخلي‏.‏ فقال‏:‏ لا أزعم أنها حرام، ولكني أخاف أن تعاطوا المؤمنات منهن ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ وهذا إسناد صحيح‏"‏

وعن ابن عمر أنه كره نكاح أهل الكتاب وتأول‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن‏}‏ وقال البخاري‏:‏ وقال ابن عمر‏:‏ لا أعلم شِركاً أعظم من أن تقول‏:‏ ربها عيسى‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم‏}‏ قال السدي‏:‏ نزلت في عبد اللّه بن رواحة كانت له أمة سوداء فغضب عليها فلطمها، ثم فزع فأتى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأخبره خبرها، فقال له‏:‏ ‏(‏ما هي‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا اللّه وأنك رسول اللّه فقال‏:‏ ‏(‏يا أبا عبد اللّه هذه مؤمنة‏)‏، فقال‏:‏ والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا‏:‏ نكح أمته، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ويُنْكحوهم رغبة في أحسابهم فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم‏}‏، ‏{‏ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم‏}وعن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن، وانكحوهن على الدين، فلأمة سوداء جرداء ذات دين أفضل‏)‏ ‏"‏رواه عبد بن حميد وفي إسناده ضعف‏"‏وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏تنكح المرأة لأربع‏:‏ لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك‏)‏ وعن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة‏)‏ ‏"‏رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمر‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا‏}‏ أي لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لا هن حل لهم ولا هم يحلون لهن‏}‏ ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم‏}‏ أي لرجلٌ مؤمن ولو كان عبداً حبشياً خير من مشرك، وإن كان رئيساً سرياً، ‏{‏أولئك يدعون إلى النار‏}‏ أي معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة وعاقبة ذلك وخيمة ‏{‏والله يدعو إلى الجنة والمغفرة بإذنه‏}‏ أي بشرعه وما أمر به وما نهى عنه ‏{‏ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون‏}‏‏.‏

 رقم الآية ‏(‏222 ‏:‏ 223‏)‏

‏{‏ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ‏.‏ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه وبشر المؤمنين ‏}‏

عن أنَس أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت المراد بالمجامعة هنا الإجتماع بهن لا الوقاع وهو المعنى الحقيقي واستعماله بالمعنى الآخر كناية اهـ فسأل أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏{‏ويسئلونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ حتى فرغ من الآية‏.‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏اصنعوا كل شيء إلا النكاح‏(‏، فبلغ ذلك اليهود فقالوا‏:‏ ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه، فجاء أسيد بن حضير وعباد بن بشرفقالا‏:‏ يا رسول اللّه إن اليهود قالت كذا وكذا أفلا نجامعهن‏؟‏ فتغير وجه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما ‏"‏رواه مسلم والإمام أحمد‏"‏فقوله‏:‏ ‏{‏فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ يعني الفرج لقوله‏:‏ ‏(‏اصنعوا كل شيء إلا النكاح‏)‏، ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج، قال أبو داود عن بعض أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً‏.‏

وعن مسروق قال، قلت لعائشة‏:‏ ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً‏؟‏ قالت‏:‏ كل شيء إلا الجماع، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن‏.‏ وروي ابن جرير عن عائشة قالتك له ما فوق الإزار، قلت‏:‏ ويحل مضاجعتها ومواكلتها بلا خلاف‏.‏ قالت عائشة‏:‏ كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض، وكان يتكىء في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن، وفي الصحيح عنها قالت‏:‏ كنت أتعرق العرق عرق اللحم وتعرقه واعتراقه تناوله بفمه من العظم وأنا حائض فأعطيه النبي صلى اللّه عليه وسلم فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة قالت‏:‏ كان النبي صلى اللّه عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض‏.‏ وروى الإمام أحمد عن عبد اللّه بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ما يحل لي من امرأتي وهي حائض‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏ما فوق الإزار‏)‏ ولأبي داود عن معاذ بن جبل قال‏:‏ سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عما يحل لي من أمرأتي وهي حائض قال‏:‏ ‏(‏ما فوق الإزار والتعففُ عن ذلك أفضل‏)‏‏.‏

فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه اللّه، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم، ومأخذهم أنه حريم الفرج فهو حرام، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم اللّه عز وجلّ، الذي أجمع العلماء على تحريمه، وهو المباشرة في الفرج، ثم من فعل ذلك فقد أثم فيستغفر اللّه ويتوب إليه، وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا‏؟‏ فيه قولان، أحدهما ‏:‏ نعم، لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض، يتصدق بدينار أو نصف دينار‏.‏ وللإمام أحمد أيضاً عنه أن رسول الله صلى اللّه عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ديناراً فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار، والقول الثاني‏:‏ وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي وقول الجمهور‏:‏ أنه لا شيء في ذلك، بل يستغفر اللّه عزّ وجلّ، لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث، فإنه قد روي مرفوعاً كما تقدم وموقوفاً، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث‏.‏ فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تقربوهن حتى يطهرن‏}‏ تفسير لقوله‏:‏ ‏{‏فاعتزلوا النساء في المحيض‏}‏ ونهى عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجوداً ومفهومه حله إذا انقطع‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله‏}‏ فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الإغتسال، وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله‏:‏ ‏{‏فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله‏}‏ وليس له في ذلك مستند لأن هذا أمر بعد الحظر، وقد اتفق العلماء على ان المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم‏.‏ إن تعذر ذلك عليها بشرطه، إلا أن أبا حنيفة رحمه الّله يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض هو عشرة ايام عنده إنها تحل بمجرد الإنقطاع، ولا تفتقر إلى غسل واللّه أعلم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ ‏{‏حتى يطهرن‏}‏ أي من الدم ‏{‏فإذا تطهرن‏}‏ أي بالماء، وكذا قال مجاهد وعكرمة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏من حيث أمركم الله‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ في الفرج ولا تَعَدَّوه إلى غيره، فمن فعل شيئاً من ذلك فقد اعتدى، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة‏:‏ ‏{‏من حيث أمركم اللّه‏}‏ أي ان تعتزلوهن، وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر كما سياتي قريباً إن شاء اللّه، وقال الضحاك‏:‏ ‏{‏فأتوهن من حيث أمركم اللّه‏}‏ يعني طاهرات غير حيّض، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏إن الله يحب التوابين‏}‏ أي من الذنب وإن تكرر غشيانه، ‏{‏ويحب المتطهرين‏}‏ أي المتنزهين عن الأقذار والأذى، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتى‏.‏

وقوله تعالى‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ الحرث موضع الولد، ‏{‏فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ أي كيف شئتم مقبلة ومدبرة في صمام واحد، كما ثبتت بذلك الأحاديث‏.‏ قال البخاي‏:‏ عن جابر قال‏:‏ كانت اليهود تقول‏:‏ إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول، فنزلت‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتو حرثكم أنى شئتم‏}‏ وعن جابر بن عبد اللّه أن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج‏)‏ ‏"‏رواه مسلم وأبو داود‏"‏وعن ابن عباس قال‏:‏ أُنزلت هذه الآية ‏{‏نساؤكم حرث لكم‏}‏ في أناس من الأنصار، أتوا النبي صلى اللّه عليه وسلم فسألوه، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ائتها على كل حال إذا كان في الفرج‏)‏ ‏"‏رواه أحمد‏"‏

قال الإمام أحمد‏:‏ عن عبد اللّه بن سابط قال‏:‏ دخلتُ على حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكرفقلت‏:‏ إني لسائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك قالت‏:‏ فلا تستحي يا ابن أخي، قال‏:‏ عن إتيان النساء في أدبارهن، قالت‏:‏ حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا يُحْبُون النساء وكانت اليهود تقول‏:‏ إنه من أحبى امرأته كان ولده أحول، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار، فأَحْبَوْهن فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت‏:‏ لن تفعل ذلك حتى آتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت‏:‏ اجلسي حتى يأتي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فلما جاء رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم استحت الأنصارية أن تسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فخرجت فسألته أم سلمة فقال‏:‏ ادعي ‏)‏الأنصارية‏(‏ فدعتها، فتلا عليها هذه الآية ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ ‏(‏صماماً واحداً‏)‏ ‏"‏رواه أحمد الترمذي‏"‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه هلكت‏!‏ قال‏:‏ ‏(‏ما الذي أهلكك‏؟‏‏)‏ قال‏:‏ حولت رحلي البارحة، قال فلم يرد عليه شيئاً، قال‏:‏ فأوحى اللّه إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم هذه الآية‏:‏ ‏{‏نساؤوكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏‏:‏ ‏(‏أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد‏"‏‏.‏

وعن نافع قال‏:‏ قرأت ذات يوم ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ فقال ابن عمر‏:‏ أتدري فيما نزلت‏؟‏ قالت‏:‏ لا، قال‏:‏ نزلت في إتيان النساء في أدبارهن‏.‏ وهذا الحديث محمول - على ما تقدم - وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها لما روى كعب بن علقمة عن أبي النضر أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر‏:‏ إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال‏:‏ كذبوا عليّ ولكن سأحدثك كيف كان الأمر؛ إن ابن عمر عرض المصحف يوماً وأنا عنده حتى بلغ ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتو حرثكم أنى شئتم‏}‏ فقال‏:‏ يا نافع، هل تعلم من أمر هذه الآية‏؟‏ قلت‏:‏ لا، قال إنا كنا معشر قريش نحبي النساء، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد، فآذاهن فكرهن ذلك وأعظمنه، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن، فأنزل الله‏:‏ ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتو حرثكم أنى شئتم‏}‏ ‏"‏رواه النسائي‏"‏وهذا إسناد صحيح وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء الميدنة وغيرهم، وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر، وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه اللّه، وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة بالزجر عن فعله وتعاطيه، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏{‏استحيوا إن اللّه لا يستحي من الحق، لا يحل أن تأتوا النساء في حشوشهن‏)وعن خزيمة بن ثابت أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها ‏"‏رواه الإمام أحمد‏"‏وفي رواية قال‏:‏ ‏(‏استحيوا إن اللّه لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن‏)وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا ينظر اللّه إلى رجل أتى رجلاً أو امرأة في الدبر‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي والنسائي‏"‏عن عكرمة قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عباس وقال‏:‏ كنت أتى أهلي في دبرها وسمعت قول اللّه ‏{‏نساؤكم حرث لكم فأتو حرثكم أنى شئتم‏}‏ فظننت أن ذلك لي حلال، فقال‏:‏ يا لكع إنما قوله ‏{‏فأتوا حرثكم أنى شئتم‏}‏ قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في أقبالهن لا تعدوا ذلك إلى غيره‏.‏ وقال عمر رضي اللّه عنه‏:‏ استحيوا من اللّه فإنَّ اللّه لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أبدراهن‏.‏ وعن أبو جويرة قال‏:‏ سأل رجل علياً عن إتيان المراة في دبرها فقال‏:‏ سفلت سفل اللّه بك ألم تسمع قول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏أتأتون الفاحشة ما سبقكم بها من أحد من العالمين‏}‏‏؟‏ وقد تقدم قول ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر في تحريم ذلك، وهو الثابت بلا شك عن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما أنه يرحمه‏.‏ عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال‏:‏ قلت لابن عمر‏:‏ ما تقول في الجواري أيحمض لهن‏؟‏ قال‏:‏ وما التحميض‏؟‏ فذكر الدبر فقال‏:‏ وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين‏؟‏ ‏"‏رواه الدرامي في مسنده‏"‏وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك، فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم، وروي معمر بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام‏.‏

وقال أبو بكر النيسابوري بسنده عن إسرائيل بن روح سألت مالك بن انَس‏:‏ ما تقول في إيتان النساء في أدبارهن‏؟‏ قال‏:‏ ما انتم إلى قوم عرب، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع‏؟‏ لا تعدوا الفرج، قلت‏:‏ يا أبا عبد اللّه إنهم يقولون إنك تقول ذلك، قال‏:‏ يكذبون عليَّ فهذا هو الثابت عنه، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة وهو قول سعيد بن المسيب، وأبي سلمة وعكرمة، وطاووس، وعطاء، وسعيد ابن جبير، وعروة بن الزبير، ومجاهد بن جبر، والحسن، وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار، ومنهم من يطلق على فعله الكفر وهو مذهب جمهور العلماء‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقدموا لأنفسكم‏}‏ أي من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات ولهذا قال‏:‏ ‏{‏واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه‏}‏ أي فيحاسبكم على أعمالكم جميعها ‏{‏وبشر المؤمنين‏}‏ أي المطيعين للّه فيما أمرهم، التاركين ما عنه زجرهم، وقال ابن جرير عن ابن عباس ‏{‏وقدموا لأنفسكم‏}‏ قال‏:‏ تقول باسم اللّه التسمية عند الجماع، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال‏:‏ باسم اللّه، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً‏)‏‏.‏

 رقم الآية ‏(‏224 ‏:‏ 225‏)‏

‏{‏ ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس والله سميع عليم ‏.‏ لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم ‏}

ومعناه‏:‏ لا تجعلوا أيمانكم باللّه تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله‏}‏، فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏واللّه لأن يَلَجَّ أحدكم بيمينه في أهله آثم له عند اللّه من أن يعطي كفارته التي افترض اللّه عليه‏)‏‏.‏ وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله‏:‏ ‏{‏ولا تجعلو اللّه عرضة لأيمانكم‏}‏ قال‏:‏ لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كَفِّر عن يمينك واصنع الخير، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏إني واللّه إن شاء اللّه لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها‏)‏، وثبت فيهما أيضاً أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة‏:‏ ‏(‏يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها، وإن أعطيتها عن مسألة وُكِلت إليها، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك‏)‏‏.‏ وعن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفِّر عن يمينه وليفعل الذي هو خير‏)‏ ‏"‏رواه مسلم‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية، وهي التي لا يقصدها الحالف، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا اللّه‏)‏ فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد، فأمروا أن يلفظوا بكلمة الإخلاص، كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد لتكون هذه بهذه ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم‏}‏ الآية، وفي الآية الأُخرى‏:‏ ‏{‏بما عقدتم الأيمان‏}‏ عن عروة عن عائشة في قوله‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ قالت‏:‏ هم القوم يتدارأون في الأمر فيقول هذا‏:‏ لا واللّه، وبلى واللّه وكلاّ واللّه يتدارأون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم‏.‏ عن عروة قال‏:‏ كانت عائشة تقول‏:‏ إنما اللغو في المزاحة والهزل، وهو قول الرجل‏:‏ لا اللّه، وبلى واللّه، فذاك لا كفارة فيه، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله‏.‏

الوجه الثاني‏:‏ عن عروة عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية يعني قوله‏:‏ ‏{‏لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم‏}‏ وتقول‏:‏ هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق، فيكون على غير ما حلف عليه‏.‏ وعن عطاء عن عائشة قالت‏:‏ هو قوله‏:‏ لا واللّه، وبلى واللّه، وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك‏.‏ أقوال أُخر‏:‏ قال عبد الرزاق عن إبراهيم‏:‏ هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه، وقال زيد بن أسلم‏:‏ هو قول الرجل‏:‏ أعمى اللّه بصري إن لم أفعل كذا وكذا، أخرجني اللّه من مالي إن لم آتك غداً فهو هذا، قال طاووس عن ابن عباس‏:‏ لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ لغو اليمين أن تحرم ما أحل اللّه لك فذلك ما ليس عليك فيه كفارة وكذا روي عن سعيد بن جبير‏.‏

وقال أبو داود باب اليمين في الغضب‏:‏ عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال‏:‏ إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة، فقال له عمر‏:‏ إن الكعبة غنية عن مالك، كفِّر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول اللّه

صلى اللّه عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب عزّ وجلّ ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم‏}‏، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد‏:‏ هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب‏.‏ قال مجاهد وغيره‏:‏ وهي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان‏}‏ الآية، ‏{‏والله غفور حليم‏}‏ أي غفور لعباده ‏{‏حليم‏}‏ عليهم‏.‏

 رقم الآية ‏(‏226 ‏:‏ 227‏)‏

‏{‏- للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم ‏.‏ وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم ‏}‏

الإيلاء‏:‏ الحلف، فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة، فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها، فإن كانت أقل فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته، وعليها أن تصبر وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آلى من نسائه شهراً فنزل لتسع وعشرين، وقال‏:‏ ‏(‏الشهر تسع وعشرون‏)‏، فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر إما أن يفيء‏:‏ أي يجامع، وإما أن يطلق، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر بها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏للذين يؤلون من نسائهم‏}‏ أي يحلفون على ترك الجماع من نسائهم، فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور‏.‏

‏{‏تربص أربعة أشهر‏}‏ أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف، ثم يوقَف ويطالَب بالفيئة أو الطلاق، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏فإن فاؤوا‏}‏ أي رجعوا إلى ما كانواعليه - وهو كناية عن الجماع - قاله ابن عباس ‏{‏فإن الله غفور رحيم‏}‏ لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم‏}‏ فيه دلالة لأحد قولي العلماء وهو القديم عن الشافعي، أن المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه ويعتضد بما تقدم في الحديث‏:‏ ‏(‏من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فتركُها كفارتُها‏)‏، كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي، والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي‏:‏ أن عليه التكفير لعموم وجوب التكفير على كل حالف كما تقدم أيضاً في الأحاديث الصحاح، واللّه أعلم‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن عزموا الطلاق‏}‏ فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور من المتأخرين، وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أشهر تطليقةٌ وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وابن عباس، ثم قيل‏:‏ إنها تطلق الأربعة أشهر طلقة رجعية قال سعيد بن المسيب، وقيل‏:‏ إنها تطلق طلقة بائنة روي عن علي وابن مسعود وإليه ذهب أو حنيفة‏.‏

فكل من قال إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عليها العدة، إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء إنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها وهو قول الشافعي، والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب‏:‏ إما بهذا، وإما بهذا، ولا يقع عليها بمجرد مضيها طلاق‏.‏ وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال‏:‏ إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف فإما أن يطلق، وإما أن يفيء ‏"‏رواه مالك عن عبد اللّه بن عمر‏"‏وقال الشافعي رحمه اللّه بسنده إلى سليمان بن يسار قال‏:‏ أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى اللّه عليه وسلم كلهم يوقف المولي‏.‏

وعن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه قال‏:‏ سألت اثني عشر رجلاً من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول‏:‏ ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق ‏"‏أخرجه الدارقطني ورواه ابن جرير‏"‏وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم رحمهم اللّه وهو اختيار ابن جرير أيضاً، وكل هؤلاء قالوا‏:‏ إن لم يفيء ألزم بالطلاق، فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم، والطلقة تكون رجعية له رجعتها في العدة، وانفرد مالك بأن قال‏:‏ لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جداً‏.‏

وقد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر الأثر الذي رواه الإمام مالك رحمه اللّه في الموطأ عن عبد اللّه بن دينار قال‏:‏ خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول‏:‏

تطاول هذا الليل واسود جانبه * وأرقني أن لا خليل ألاعبه

فواللّه لولا أني أراقبه * لحرك من هذا السرير جوانبه

فسأل عمر ابنته حفصة رضي اللّه عنها‏:‏ كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها‏؟‏ فقالت‏:‏ ستة أشهر، أو أربعة أشهر، فقال عمر‏:‏ لا أحبس أحداً من الجيوش أكثر من ذلك ‏"‏رواه مالك في الموطأ عن عبد اللّه بن دينار‏"‏

 رقم الآية ‏(‏228‏)‏

‏{‏ والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم ‏}‏

هذا أمر من اللّه سبحانه وتعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء، أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت فإنها تعتد عندهم بقرأين لأنها على النصف من الحرة، والقرء لا يتبعض فكمل لها قرآن لحديث‏:‏ ‏(‏طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة عن ابن عمر مرفوعاً والصحيح أنه موقوف من قول ابن عمر‏"‏

وقال بعض السلف‏:‏ بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية ولأن هذا أمر جلي فكان الحرائر والإماء في هذا سواء حكي هذا القول عن بعض أهل الظاهر‏.‏ وروي عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت‏:‏ طلقت على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل اللّه عزّ وجلّ حين طلِّقت أسماءُ العدة للطلاق فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق يعني‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء‏}‏ ‏"‏قال ابن كثير‏:‏ هذا حديث غريب من هذا الوجه‏"‏وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو على قولين، أحدهما‏:‏ أن المراد بها الأطهار وقال مالك في الموطأ عن عروة عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة، فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن، فقالت‏:‏ صدق عروة، وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا‏:‏ إن اللّه تعالى يقول في كتابه‏:‏ ‏{‏ثلاثة قروء‏}‏، فقالت عائشة‏:‏ صدقتم وتدرون ما الأقراء‏؟‏ إنما الأقراء الأطهار‏.‏ وعن عبد اللّه بن عمر أنه كان يقول‏:‏ إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها، وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد، واستدلوا عليه بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فطلقوهن لعدتهن‏}‏ أي في الأطهار، ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسباً، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها، ولهذا قال هؤلاء‏:‏ إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة، واستشهد أبو عبيدة وغيره على ذلك بقول الأعشى‏:‏

مورثة مالاً وفي الأصل رفعة * لما ضاع فيها من قروء نسائكا

يمدح أميراً من أُمراء العرب آثر الغزو على المقام حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها‏.‏ والقول الثاني‏:‏ أن المراد بالأقراء الحيض فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة، زاد آخرون وتغتسل منها، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل، وحكى عن الأثرم أنه قال‏:‏ الأكابر من أصحاب رسول الّه صلى اللّه عليه وسلم يقولون الأقراء‏:‏ الحيض، وهو مذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث عن فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لها‏:‏ ‏(‏دعي الصلاة أيام أقرائك‏)‏، فهذا لو صح لكان صريحاً في أن القرء هو الحيض‏.‏

وقال ابن جرير‏:‏ أصل القرء في كلام العرب الوقت لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم، وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركاً بين هذا وهذا، وقد ذهب إليه بعض الأصوليين واللّه أعلم، وهذا قول الأصمعي‏:‏ إن القرء هو الوقت، وقال أبو عمرو بن العلاء‏:‏ العرب تسمي الحيض قرءاً، وتسمي الطهر قرءاً وتسمي الطهر والحيض جميعا قرءاً وقال ابن عبد البر‏:‏ لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء أن القرء يراد به الحيض، ويراد به الطهر، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن‏}‏ أي من حبل أو حيض، قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد، وقوله‏:‏ ‏{‏إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ تهديد لهن على خلاف الحق، ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن، ويتعذر إقامة البينة غالباً على ذلك فرد الأمر إليهن، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق، إما استعجالاً منها لانقضاء العدة، أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد، فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا‏}‏ أي زوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها، إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير، وهذا في الرجعيات، فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن، وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلاق الثلاث، فأما حال نزول هذه الآية، فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات، صار للناس مطلقة بائن وغير بائن‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏}‏ أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف، كما ثبت عن جابر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع‏:‏ ‏(‏فاتقوا اللّه في النساء، فإنكم أخذتموهن بأمانة اللّه، واستحللتم فروجهن بكلمة اللّه، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏)‏ ‏"‏رواه مسلم عن جابر مرفوعاً‏"‏وفي حديث عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال‏:‏ يا رسول اللّه ما حق زوجة أحدنا‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أن تطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيت، ولا تضرب الوجه، ولا تقبّح ولا تهجر إلا في البيت‏)‏‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن اللّه يقول‏:‏ ‏{‏ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف‏}‏ ‏"‏رواه ابن أبي حاتم وابن جرير‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏وللرجال عليهن درجة‏}‏ أي في الفضيلة في الخَلق والخُلق، والمنزلة وطاعة الأمر، والإنفاق والقيام بالمصالح، والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏والله عزيز حكيم‏}‏ أي عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، حكيم في أمره وشرعه وقدره‏.‏

 رقم الآية ‏(‏229 ‏:‏ 230‏)‏

‏{‏ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون ‏.‏ فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ‏}‏

هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة مادامت في العدة، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم اللّه إلى ثلاث طلقات، وأباح الرجعة في المرة والثنتين، وأبانها بالكلية في الثالثة، فقال‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ قال أبو داود عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق اللّه في أرحامهن‏}‏ الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً، فنسخ ذلك فقال‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ الآية‏.‏

وعن هشام بن عروة عن أبيه أن رجلاً قال لامرأته‏:‏ لا أطلقك أبداً ولا آويك أبداً، قالت‏:‏ وكيف ذلك‏؟‏ قال‏:‏ أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك، فأتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ ‏"‏رواه النسائي‏"‏‏.‏

وعن عائشة قالت‏:‏ لم يكن للطلاق وقت، يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس قال‏:‏ ‏(‏والله لأتركنك لا أيِّماً ولا ذات زوج، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها، ففعل ذلك مراراً فأنزل اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ فوقَّت الطلاق ثلاثاً لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره ‏"‏رواه ابن مردويه والحاكم‏"‏وقوله‏:‏ ‏{‏فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية، بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك، وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقها شيئاً ولا تُضارَّ بها‏.‏ وعن ابن عباس قال‏:‏ إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق اللّه في ذلك، أي في الثالثة فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً، وعن أنَس ابن مالك قال‏:‏ جاء رجل إلى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ ذكر اللّه الطلاق مرتين فأين الثالثة‏؟‏ قال‏:‏ ‏{‏إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏ ‏"‏رواه ابن مردويه وأحمد وعبد بن حميد‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا‏}‏ أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة‏}‏ فأما إن وهبته المرأة شيئاً عن طيب نفسٍ منها فقد قال تعالى ‏{‏فإن طلبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً‏}‏ وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليه في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك مها، ولهذا قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهم شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود اللّه فإن خفتم ألا يقيما حدود اللّه فال جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ الآية، فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الإفتداء منه فقد قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أيما امرأة سالت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة‏"‏وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏المختلعات هن المنافقات‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي وقال‏:‏ غريب من هذا الوجه‏"‏‏"‏حديث آخر‏"‏وقال الإمام أحمد‏:‏ عن النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏المختلعات والمنتزعات هن المنافقات‏)‏ وعن ابن عباس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً‏)‏ ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموه شيئاً إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله‏}‏، قالوا‏:‏ فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل، والأصل عدمه، وممن ذهب إلى هذا ابن عباس وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي‏:‏ لو أخذ منها شيئاً وهو مضار لها وجب رده إليها وكان الطلاق رجعياً، قال مالك‏:‏ وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه، وذهب الشافعي رحمه اللّه إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الإتفاق بطريق الأولى والأحرى، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة، وقد ذكر ابن جرير رحمه اللّه أن هذه الآية نزلت في شأن ثابت بان قيس بن شماس وامرأته حبيبة بنت عبد اللّه بن أبي بن سلول ‏.‏

قال البخاري‏:‏ عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ يا رسول اللّه‏:‏ ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أتردين عليه حديقته‏)‏‏؟‏ قالت‏:‏ نعم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏أقبل الحديقة وطلقها تطليقة‏)‏، وهكذا رواه البخاري أيضاً من طرقه عن عكرمة عن ابن عباس وفي بعضها أنها قالت‏:‏ لا أطيقه يعني بغضاً‏.‏ وفي رواية عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ واللّه ما أعتب على ثابت بن قيس في دين ولا خلق، ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضاً، فقال لها النبي صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏تردِّين عليه حديقته‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم، فأمره النبي صلى اللّه عليه وسلم أن يأخذ ما ساق ولا يزداد‏.‏ وقال ابن جرير‏:‏ عن عبد اللّه بن رباح عن جميلة بنت عبد اللّه بن أبي ابن سلول أنها كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ ‏(‏يا جميلة ما كرهت من ثابت‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ اللّه ما كرهت منه ديناً ولا خلقاً إلا أني كرهت دمامته، فقال لها‏:‏ ‏(‏أتردين عليه الحديقة‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم، فردت الحديقة وفرق بينهما‏.‏

وأول خلع كان في الإسلام في أخت عبد اللّه بن أُبي أنها أتت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول اللّه، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداُ، إني رفعت جانت الخباء فرايته قد أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاُ، فقال زوجها‏:‏ يارسول اللّه، إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليَّ حديقتي، قال‏:‏ ‏(‏ماذا تقولين‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ نعم وإن شاء زدته، قال‏:‏ ففرق بينهما‏.‏

وقد اختلف الأئمة رحمهم اللّه في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها‏؟‏ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ وعن كثير مولى ابن سمرة أن عمر أتي بأمرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل، ثم دعا بها فقال‏:‏ كيف وجدت‏؟‏ فقالت‏:‏ ما وجدت راحةً منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني، فقال لزوجها‏:‏ اخلعها ولو من قرطها ‏"‏رواه عبد الرزاق وابن جرير‏"‏وقال البخاري‏:‏ وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها لحديث الربيع بنت معوذ قالت‏:‏ كان لي زوج يُقلُّ عليَّ الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب عني، قالت‏:‏ فكانت مني زلة يوما فقلت‏:‏ أختلع منك بكل شيء أملكه، قال‏:‏ نعم، قالت‏:‏ ففعلت فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان فأجاز الخلع، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه، أو قالت‏:‏ ما دون عقاص الرأس ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها، وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد وهذا مذهب مالك والشافعي واختاره ابن جرير‏.‏

وقال أصحاب أبي حنيفة‏:‏ إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها، ولا يجوز الزيادة عليه، فإن ازداد جاز في القضاء، وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئاً فإن أخذ جاز في القضاء، وقال الإمام أحمد‏:‏ لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء، وقال معمر‏:‏ كان علي يقول‏:‏ لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها‏.‏ قلت‏:‏ ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية ابن عباس في قصة ثابت بن قيس فأمره رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد، وبما روي عن عطاء عن النبي صلى اللّه عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة، وحملوا معنى الآية على معنى ‏{‏فلا جناح عليهما فيما افتدت به‏}‏ أي من الذي أعطاها لتقدم قوله‏:‏ ‏{‏ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً‏}‏ ولهذا قال بعده‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون‏}‏

 فصل

قال الشافعي‏:‏ اختلف أصحابنا في الخلع، فعن عكرمة قال‏:‏ كل شيء أجازه المال فليس بطلاق، وروي عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال‏:‏ رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها‏؟‏ قال‏:‏ نعم ليس الخلع بطلاق، ذكر اللّه الطلاق في أول الآية وآخرها، والخلع فيما بين ذلك فليس الخلع بشيء، ثم قرأ‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان‏}‏، وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رواية عن عثمان وابن عمر وبه يقول أحمد وهو مذهب الشافعي في القديم، وهو ظاهر الآية الكريمة، والقول الثاني في الخلع إنه طلاق بائن إلا أن ينوي أكثر من ذلك وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد، غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخلع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة، وإن نوى ثلاثاً فثلاث، وللشافعي قول آخر في الخلع وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن البينة فليس بشيء بالكلية‏.‏

 مسألة

وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء، لأنه قد ملكت نفسها‏.‏ بما بذلت له من العطاء، وقال سفيان الثوري‏:‏ إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها‏؟‏ وإن كان يسمى طلاقاً فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة وبه يقول داود الظاهري، واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة، وحكى ابن عبد البر عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره، وهو قول شاذ مردود‏.‏

 مسألة

وهل له أن يوقع عليها طلاقاً آخر في العدة‏؟‏ فيه ثلاثة أقول للعلماء‏.‏ أحدها‏:‏ ليس له ذلك لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه، وبه يقول الشافعي وأحمد بن حنبل‏.‏ والثاني‏:‏ قال مالك‏:‏ إن أتبع الخلع طلاقاً من غير سكوت بينهما وقع، وإن سكت بينهما لم يقع قال ابن عبد البر‏:‏ وهذا يشبه ما روي عن عثمان رضي اللّه عنه‏.‏ والثالث أنه يقع عليها الطلاق بكل حال مادامت في العدة، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏تلك حدود اللّه فلا تعتدوها ومن يتعد حدود اللّه فأولئك هم الظالمون‏}‏ أي هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده فلا تتجاوزوها كما ثبت في الحديث الصحيح‏:‏ ‏(‏إن اللّه حد حدوداً فلا تعتدوها، وفرض فرائض فلا تضيعوها، وحرم محارم فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان‏؟‏‏؟‏ فلا تسألو عنها‏)‏، وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة لقوله‏:‏ ‏{‏الطلاق مرتان‏}‏ ثم قال‏:‏ ‏{‏تلك حدود الله فلا تعتدوها‏}‏ الآية‏.‏ أخبر رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال‏:‏ ‏(‏أيلعب بكتاب اللّه وأنا بين أظهركم‏(‏ حتى قام رجل فقال‏:‏ يا رسول اللّه ألا أقتله‏؟‏ ‏"‏رواه النسائي، قال ابن كثير‏:‏ وفيه انقطاع‏"‏

‏{‏ الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره‏}‏ أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره، أي حتى يطأها زوج آخر، في نكاح صحيح، فلو وطئها واطىء في غير نكاح ولو في ملك اليمين لم تحل للأول، لأنه ليس بزوج، وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول، لحديث ابن عمر عن النبي صلى اللّه عليه وسلم في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها‏)‏ عن أنس بن مالك أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثاً، فتزوجت بعده رجلاً فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول‏؟‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا، حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته‏.‏ قال مسلم في صحيحه عن عائشه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها فتتزوج رجلا آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول قال‏:‏‏(‏لا حتى يذوق عسيلتها‏)‏‏.‏ وعن عائشة أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها، فأتت النبي صلى اللّه عليه وسلم فذكرت له أنه لا يأتيها، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب، فقال‏:‏ ‏(‏لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك‏)‏ ‏"‏تفرد به البخاري من هذا الوجه‏"‏وقال الإمام أحمد عن عائشة قالت‏:‏ دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي صلى اللّه عليه وسلم فقالت‏:‏ إن رفاعة طلقني البتة، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني، وإنما عنده مثل الهدبة، وأخذت هدبة من جلبابها - وخالد ابن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له - فقال‏:‏ يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول باللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏؟‏ فما زاد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم عن التبسم فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك‏)‏‏.‏

فصل والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغبا في المرأة، قاصداً لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحاً، فلو وطئها وهي مُحْرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء، أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف، لم تحل للأول بهذا الوطء، وكذا لو كان الزوج الثاني ذمياً لم تحل للمسلم بنكاحه، لأن أنكحة الكفار باطلة عنده، فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول، فهذا هو المحلل الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة‏.‏

ذكر  الأحاديث الواردة في ذلك

 الحديث الأول‏:‏ عن ابن مسعود رضي اللّه عنه قال‏:‏ لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلَّل والمحلَّل له، وآكل الربا وموكله ‏"‏تفرد به البخاري من هذا الوجه‏"‏

 الحديث ال">

الحديث الثاني‏:‏ عن علي رضي اللّه عنه قال‏:‏ لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والواشمة والمستوشمة للحسن ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له، وكان ينهى عن النوح ‏"‏رواه أحمد وأبو داود وابن ماجة‏"‏

 الحديث الثالث عن جابر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لعن اللّه المحلل والمحلل له‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي‏"‏

 الحديث ال">

الحديث الرابع‏:‏ عن عقبة بن عامر رضي اللّه عنه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ألا أخبركم بالتيس المستعار‏)‏، قالوا‏:‏ بلى يا رسول اللّه، قال‏:‏‏(‏هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له‏)‏ ‏"‏تفرد به ابن ماجة‏"‏‏.‏

 الحديث الخامس عن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال‏:‏ سئل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن نكاح المحلل قال‏:‏ ‏(‏لا، إلا نكاح رغبة، لا نكاح دلسة، ولا استهزاء بكتاب اللّه، ثم يذوق عسيلتها‏)‏ ‏"‏رواه الجوزجاني السعدي‏"‏

 الحديث السادس‏:‏ عن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال‏:‏ لعن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم المحلل والمحلل له ‏"‏رواه أحمد‏"‏

 الحديث السابع‏:‏ عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال‏:‏ جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول‏؟‏ فقال‏:‏ لا إلا نكاح رغبة، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى اللّه عليه وسلم ‏"‏رواه الحاكم في المستدرك‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن طلقها‏}‏ أي الزوج الثاني بعد الدخول بها ‏{‏فلا جناح عليهما أن يتراجعا‏}‏ أي المرأة والزوج الأول ‏{‏إن ظنا أن يقيما حدود الله‏}‏ أي يتعاشرا بالمعروف، قال مجاهد‏:‏ إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة ‏{‏وتلك حدود الله‏}‏ أي شرائعه وأحكامه ‏{‏يبينها‏}‏ أي يوضحها ‏{‏لقوم يعلمون‏}‏‏.‏

وقد اختلف الأئمة رحمهم اللّه فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ثم تزوجها الأول هل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل، وهو قول طائفة من الصحابة رضي اللّه عنهم، أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم اللّه، حجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلا يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى، واللّه أعلم

 رقم الآية ‏(‏231‏)‏

‏{‏ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا واذكروا نعمة الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ‏}‏

هذا أمر من اللّه عزّ وجلّ للرجال‏:‏ إذا طلق أحدهم المرأة طلاقاً له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها أي يتركها حتى تنقضي عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح، قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضراراً لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم اللّه عن ذلك وتوعدهم عليه فقال‏:‏ ‏{‏ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه‏}‏ أي بمخالفته أمر اللّه تعالى‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا آيات اللّه هزواً‏}‏ قال مسروق‏:‏ هو الذي يطلق في غير كنهه ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليها العدة، وقال الحسن وقتادة‏:‏ هو الرجل يطلق ويقول‏:‏ كنت لاعباً، أو يعتق أو ينكح ويقول‏:‏ كنت لاعباً، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا‏}‏، وعن ابن عباس قال‏:‏ طلق رجل امرأته وهو يلعب ولا يريد الطلاق، فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏ولا تتخذوا آيات اللّه هزوا‏}‏ فألزمه رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم الطلاق‏.‏ وقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد‏:‏ النكاح، والطلاق، والرجعة‏)‏ ‏"‏رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة، وقال الترمذي‏:‏ حسن غريب‏"‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واذكروا نعمة الله عليكم‏}‏ أي في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم ‏{‏وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة‏}‏ أي السنّة ‏{‏يعظكم به‏}‏ أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي فيما تأتون وفيما تذرون ‏{‏واعلموا أن الله بكل شيء عليمْ‏}‏ أي فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم على ذلك‏.‏

 رقم الآية ‏(‏232‏)‏

‏{‏ وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون ‏}‏

قال ابن عباس‏:‏ نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدوا له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى اللّه أن يمنعوها، والذي قاله ظاهر من الآية، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها، وأنه لا بد في النكاح من ولي، وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع، وقد قررنا ذلك في كتاب الأحكام وللّه الحمد والمنة‏.‏

وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني‏}‏ وأُخته‏.‏ روى الترمذي عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب، فقال له‏:‏ يا لكع ابن لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها، واللّه لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك، قال فعلم اللّه حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل اللّه‏:‏ ‏{‏وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن‏}‏، إلى قوله‏:‏ ‏{‏وأنتم لا تعلمون‏}‏، فلما سمعها معقل قال‏:‏ سمع لربي وطاعة ثم دعاه فقال‏:‏ أزوجك وأكرمك ‏"‏رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة واللفظ للترمذي‏"‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن باللّه واليوم الآخر‏}‏ أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له ‏{‏من كان منكم‏}‏ أيها الناس ‏{‏يؤمن بالله واليوم الآخر‏}‏ أي يؤمن بشرع اللّه ويخاف وعيد اللّه وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء ‏{‏ذلكم أزكى لكم وأطهر‏}‏ أي اتبعاكم شرع اللّه في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحَمِيَّة في ذلك ‏{‏أزكى لكم وأطهر‏}‏ لقلوبكم ‏{‏واللّه يعلم‏}‏ أي من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه ‏{‏وأنت لا تعلمون‏}‏ أي الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون‏.‏

 رقم الآية ‏(‏233‏)‏

‏{‏ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده وعلى الوارث مثل ذلك فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير ‏}‏

هذا إرشاد من اللّه تعالى للوادات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي سنتان فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك، ولهذا قال‏:‏ ‏{‏لمن اراد أن يتم الرضاعة‏}‏ وذهب أكثر الأئمة، إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم، قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام‏)‏ ‏"‏رواه الترمذي عن أم سلمة وقال‏:‏ حديث حسن صحيح‏"‏ومعنى قوله‏:‏ ‏(‏إلا ما كان في الثدي‏)‏ أي في محالّ الرضاعة قبل الحولين لحديث‏:‏ ‏(‏إن ابني مات في الثدي وإن له مرضعاً في الجنة‏)‏ ‏"‏رواه أحمد عن البراء بن عازب وقد قاله عليه السلام عند موت ولده إبراهيم‏"‏وإنما قال عليه السلام ذلك لأن ابنه إبراهيم عليه السلام مات وله سنة وعشرة أشهر، فقال‏:‏ إن له مرضعاً يعني تكمل رضاعته ويؤيده ما رواه الدارقطني عن ابن عباس قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين‏)‏ ‏"‏رواه مالك في الموطأ أخرجه الدار قطني واللفظ له‏"‏

وقال الطيالسي عن جابر قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ‏:‏‏(‏لا رضاع بعد فصال، ولا يُتْمَ1‏"‏بعد احتلام‏)‏، وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وفصاله في عامين أن اشكر لي‏}‏، وقال‏:‏ ‏{‏وحمله وفصاله ثلاثون شهرا‏}‏ والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين يروى عن عليّ وابن عباس وابن مسعود وهو مذهب الشافعي وأحمد، وقال أبو حنيفة‏:‏ سنتان وستة أشهر‏.‏ وقد روي عن عمر وعلي أنهما قال‏:‏ لا رضاع بعد فصال، فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور سواء فطم أو لم يفطم، ويحتمل أنهما أرادا الفعل كقول مالك، واللّه أعلم‏.‏

وقد روي في الصحيحين عن عائشة رضي اللّه عنها أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم، وهو قول عطاء والليث بن سعد، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى اللّه عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى اللّه عليه وسلم ورأين ذلك من الخصائص، وهو قول الجمهور، وحجة الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏انظرن من إخوانُكنَّ‏!‏ فإنما الرضاعة من المجاعة‏)‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف‏}‏ أي وعلى والد الطفل، نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن، من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه اللّه لا يكلف اللّه نفساً إلا ما آتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا‏}‏، قال الضحاك‏:‏ إذا طلق زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تضار والدة بولدها‏}‏ أي بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالباً، ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها ولهذا قال‏:‏ ‏{‏ولا مولود له بولده‏}‏ أي بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضراراً بها قاله مجاهد وقتادة‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وعلى الوارث مثل ذلك‏}‏ قيل‏:‏ في عدم الضرار لقريبه، قاله مجاهد والضحاك، وقيل‏:‏ عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها وهو قول الجمهور، وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره، وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف، ويُرجَّح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعاً‏:‏ ‏(‏من ملك ذا رحم محرم عتق عليه‏)‏ وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو في عقله‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما‏}‏ أي فإن اتفق والد الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه كما قال في سورة الطلاق‏:‏ ‏{‏فإن أرضعن لكم فآتوهنّ أجورهنّ وأتمروا بينكم بمعروف وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى‏}‏‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن أرادتم أن تسترضعوا أولدادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف‏}‏ أي إذا أنفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد، إما لعذر منها أو لعذر منه، فلا جناح عليهما في بذله ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف، وقوله‏:‏ ‏{‏واتقوا الله‏}‏ أي في جميع أحوالكم ‏{‏واعلموا أن الله بما تعملون بصر‏}‏ أي فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم‏.‏

----------------

لا يُتْم‏:‏ بسكون التاء‏.‏ يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام صغار الأيتام

----------------